عمر بن عبدالعزيز العمقي"
نجت تلك الطفلة الرضيعة، التي اصيبت بالعمى من الموت. لكنها فقدت ثلاث حواس أساسية: السمع والبصر وبالتالي القدرة على الكلام. لقد عجزت أسرة الطفلة عن تقديم العون لها، رغم انها من العائلات الامريكية المعروفة بثرائها وتحضرها. فلم يكن بمقدور الأطباء مساعدة هذه الطفلة على استعادت القدرة على الكلام والسمع والبصر.. ولم يكن بمقدور هذه الاسرة الرضى بحكمة الله وقدرته!
عاشت (هيلين كيلر) في طفولتها حياة مليئة بالشفقة والحزن والألم والرعاية العاجزة. نشأت على نمط بهيمي في الاهتمامات: تأكل، تنام، تشرب، تحصل على ما تشتهيه، وتفعل ما يلوج في خواطر عقلها. وحينما لا تحصل على شيء ما، أو لم تفهم ما تريد ممن حولها فإنها تصاب بنوبات غضب جنونية فتضرب، تكسر، تصرخ، تبكي.
وفي السابعة من عمرها قامت العائلة بإحضار معلمة ومربية لطفلتهم الخرساء البكماء الصماء. لقد كانت المهمة شبه مستحيلة على تلك الشابة الصغيرة ذات الواحد والعشرين ربيعاً؛ لكن المعلمة (آن سوليفان) رفضت الانهزم، وبدأت البداية الصحيحة: لقد أحبت هيلين. احبتها بصدق وبعمق على الرغم من كل صفاتها. لقد كانت تنظر إليها بعينين ملؤهما الأمل والعزم والحنان!
كانت (آن) تردد في اعماقها: «هيلين يا حبيبتي يجب ان تعيشي حياة أفضل! يجب أن تخرجي من قوقعتك! أعلم أنك تملكين القدرة والذكاء وانني املك الرغبة والعزم».
كانت هيلين مزعجة جداً بسبب أن من حولها كان يشفق عليها إلى حد تدليلها الدلال الأعمى. فحرصت معلمتها على تغيير سلوكياتها السلبية، وقامت بتعويدها على سلسلة من السلوكيات التي لم ترضخ لها هيلين بسهولة. لقد كان ترويضها صعباً جداً لما تتميز به من عناد وافتعال للغضب؛ فقد بلغ عنادها أن صفعت معلمتها فبادلتها الصفعة مؤكدة لها أنها ندٌ لها وليست أقل في شيء ولذلك ستحاسب على كل فعل ويجب ان تتحمل مسؤولية تصرفاتها كاملة.
ورويداً رويدا اعتادت هيلين على الجلوس بأدب عند تناول الطعام، وأن تأكل بالملعقة، ولا مناص لها من ملء ابريق الماء ان سكبته على الأرض.
بعد ذلك بدأت المعلمة الانتقال إلى المرحلة الثانية وهي تعليم هيلين لغة الانامل، وهي لغة تعتمد على كتابة الاحرف على الكف بلمسات معينة ومختلفة. وبعد محاولات مضنية، ادركت المعلمة ان هيلين لا تملك ابداً اي معنى حسي في رأسها لهذه الكلمة أو تلك. ولحل هذه المعضلة راحت المعلمة تجول بصغيرتها في الحقول والبراري وفناء المنزل وعلى الطرقات. وتجعلها تلمس بأصابعها كل شيء وتتعرف على ملامحه ثم تكتب لها على كفها اسمه لكي تتعلم هيلين ذلك!
لقد حاولت هيلين أن تربط بين الكلمة ومعناها الحسي الملموس.. واثناء ما كانت تلعب بالماء كأي طفلة مرحة، جاءت العناية الربانية الرائعة لتفتح ابواب الحياة على هيلين وكأن رقة الماء ببرودته وملمسه، دفعتها إلى إزالة الستار عن عقلها فقفز المعنى إلى واجهة وعيها فكتبته بلا وعي على كف معلمتها. لم تصدق (آن) ما فهمته من اصابع هيلين وتأكدت منها فإذا بها تكتب «ماء». بكت (آن) من الفرحة لانها نجحت أخيراً.
واستمرت هيلين برفقة معلمتها، فعلمتها لغة (برايل) وانهت الدراسة الاساسية ثم الدراسة الجامعية. نعم فقد كانت تذهب برفقة معلمتها (آن) التي كانت تقوم بترجمة كل ما يقال في القاعة وكتابته على كف هيلين.
اصبحت هيلين كاتبة شهيرة وذاع صيتها في القارات الست حين نالت جائزة نوبل في الآداب. وقد كتبت على يد معلمتها العديد من الروايات العالمية والتي ترجمت إلى العديد من اللغات.
لقد أحيت هيلين الأمل في قلوب من حولها من المعاقين واليائسين سواء ذوي الاعاقة الجسدية او النفسية.
لقد انشأت المدارس المتخصصة، والمنتديات الرائدة، وصالت وجالت تحدث الناس بلغتها المتواضعة التي تعلمتها من وضع اصابعها على شفتي وحلق معلمتها ثم تقليد الاهتزاز. تحدثت بتلك اللغة المقبولة عن معاني التفاؤل والحياة الكريمة والجمال وكسر قيود الروح!!
أخيراً، إن لم يكن لديك يد كالسيدة (آن) تأخذك من ضعفك فجاهد أن تكون قوياً مثلها تأخذ بيد من حولك!
المصدر ملتقى عالم التطوع العربي